سورة هود - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قلت: {تأمرك أن نترك}: على حذف مضاف، أي: تأمرك بتكليف أن نترك؛ لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره. و{أن نفعل}: عطف على {ما}؛ أي: أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جل جلاله: {قالوا يا شعيب أصلواتك} التي تُكثر منها هي التي {تأمرك} أن تأمرنا {أن نترك ما يعبد آباؤنا} من الأصنام، وندخل معك في دينك المحدث، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله: {ما لكم من إله غيره}، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء، فقالوا: {أو} نترك {أن نفعل في أموالنا ما نشاء} من البخس وغيره؟ وقيل: كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فناهم عن ذلك.. {إنك لأنت الحليم الرشيد}، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده، من خفة العقل والسفه؛ لأن العاقل عندهم هو الحرص على جمع الدنيا وتوفيرها، وهو الحمق عند العقلاء، أو إنك موسوم بالحلم والرشد؛ فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم. والتكاثر منها، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة، فإنهم يرفضونه، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية، الجاهلة بالله، وبما أمر به، وفي الحديث: «لَتَتبعُنَّ سَننَ مَن قَبلِكُم شِبراً بِشبر، وذرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلْوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخَلتُمُوه» وبالله التوفيق.


قلت: جواب {إن كنت}: محذوف، أي: فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره.
يقول الحق جل جلاله: {قال} شعيب لقومه: {يا قوم أرأيتم إن كنتم على بينةٍ من ربي}، وهي النبوة والعلم والحكمة، {ورزقني منه}؛ من عنده، وبإعانته، بلا كد في تحصيله، {رزقاً حسناً}: حلالاً، إشارة إلى من آتاه من المال الحلال. فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية، أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان، والكف عن العصيان، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد، أي: كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه، وأنا على بينة منه، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم. ولذلك قال إثره: {وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي: وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه؛ لأَستبد به دونكم، فتتهموني إن أردت الاستبداد به. يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه: إذا ولى عنه وأنت قاصده. {إن أريدُ إلا صلاحَ ما استطعت} أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي: ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة: أهمها وأعلاها: حق الله تعالى. وثانيها: حق النفس، وثالثها: حق الناس. اهـ. قلت: فحق الله: كونه على بينة من ربه، وحق النفس: تمكينه من الرزق الحسَن. وحق الناس: نصحهم من غير طمع، ولا حظ.
ثم قال: {وما توفيقي إلا بالله}؛ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب إلا بهدايته ومعونته، {عليه توكلتُ}؛ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. {وإليه أُنيب}؛ أرجع في جميع أموري. {ويا قوم لا يجرمنكم}: لا يُكسبنكم {شقاقي}: معاداتي، {أن يُصيبكم مثل ما أصاب قومَ نوح} من الغرق، {أو قومَ هودٍ} من الريح، {أو قومَ صالحٍ} من الصيحة، والمعنى: لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم، {وما قومُ لوطٍ منكم ببعيدٍ}؛ زماناً ولا مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم، فاعتبروا بهم؛ إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد بعيد؛ لأن المراد: وما إهلاكهم، أو وما هم بشيء بعيد.
{واستغفروا ربَّكم ثم تُوبوا إليه} عما أنتم عليه؛ {إن ربي رحيم}؛ عظيم الرحمة للتائبين {ودود}؛ متودد إليهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
قاله البيضاوي.
الإشارة: قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين: الأولى: فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية: تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة: السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة: الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة: الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة: تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.


قلت: {سوف تعلمون}: ذكره هنا بغير فاء، وفي الأنعام بالفاء، لأن الكلام في سورة الأنعام مع الأمة المحمدية، فأتى بالفاء لمطلق السببية، وهنا مع قوم شعيب عليه السلام، فحذفها؛ لأنه أبلغ في التهويل. فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال: فما يكون بعد ذلك؟ فقال: سوف تعلمون... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {قالوا يا شعيبُ ما نفقه}؛ ما نفهم {كثيراً مما تقول} من أمر التوحيد، وترك التبخيس، وما ذكرت من الدليل عليها؛ وذلك لانهماكم في الهوى، وقصور عقلهم وعدم تفكرهم. وقيل: قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا: {وإنا لنراك فينا ضعيفاً}؛ لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً، أو: نراك ناحل البدن، أو: ضرير البصر. وضعفه ابن عطيه. {ولولا رهطُك} أي: قومك، الذين هم باقُون على ما ملتنا، وكونهم في عزة عندنا، {لرجَمْنَاكَ}: لقتلناك بالحجارة. أو بأصعب وجه، {وما أنت علينا بعزيز}؛ فتمنعنا عزتك من رجمك.
قال البيضاوي: وهذا ديدن السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال: {يا قوم أرَهْطِي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءَكم ظِهْرياً}، وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر، بإشراككم به، والإهانة لرسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب. والظهري: منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيير البناء. اهـ. قال ابن جزي: فإن قيل: إنما وقع الكلام فيه وفي وهطه، بأنهم هم الأعزة دونه، فكيف طابق جوابه كلامهم؟ فالجواب: أن تهاونهم به، وهو رسول الله، تهاون الله. فلذلك قال: {أرهطي أعز عليكم من الله}. اهـ.
{إن ربي بما تعملون محيط} فلا يخفى عليه شيء منها، فيجازي عليها بتمامها. {ويا قوم اعملوا على مكانتكم}: على حالتكم من تمكنكم في الدنيا، وعزتكم فيها، {إني عامل} على حالي، {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه}، يُهينه في الدنيا والآخرة، {و} سوف تعلمون {من هو كاذب} مني ومنكم، {وارتقبوا}؛ وانتظروا ما أقول لكم، {إني معكم رقيب}: مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل، كالصريح والرفيع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى؛ يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته: قربه من الله، وتعظيمه لحرمات الله، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله، وورثتهم القائمين بحجته، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته: بعده من الله، وإهانته لحرمات الله، واتخاذه أمره ظهرياً، وجعل ذكره نسياً منسياً. وبالله التوفيق.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14